فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة.
ومن تشبه بقوم فهو منهم.
وقال الطبريّ: ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حلّه.
ومَن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر.
ومن ترك أكل اللحم خوفًا من عارض شهوة النساء.
وسئل بِشْر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخَزّ والمعَصْفَر أحب إليّ من لبس الصوف في الأمصار.
وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدّون، ويتخيّرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخيّر الأجود عندهم قبيحًا.
وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه مَنْهِيّ عنه.
فإن قال قائل: تجويد اللباس هَوَى النفس وقد أمِرنا بمجاهدتها، وتزيّن للخلق وقد أمِرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق.
فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يُذَمّ، وليس كل ما يُتَزَيّن به للناس يُكره، وإنما يُنْهَى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدِّين.
فإن الإنسان يجب أن يُرى جميلًا.
وذلك حظ للنفس لا يُلام فيه.
ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوّي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج.
وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يُذَم.
وقد روى مَكْحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار رَكْوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوّي لحيته وشعره.
فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: «نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فلْيُهَيِّيء من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال» وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذَرّة من كِبر».
فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة.
قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكِبر بَطَر الحق وغَمْطُ الناس».
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة.
وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دُكَيْن قال حدّثنا مَنْدل عن ثور عن خالد بن معدان قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر بالمشط والمرآة والدّهن والسواك والكحل» وعن ابن جريج: مشط عاج يتمشط به.
قال ابن سعد: وأخبرنا قَبيصة بن عقبة قال: حدّثنا سفيان عن ربيع بن صَبيح عن يزيد الرّقاشيّ عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ويسرّح لحيته بالماء».
أخبرنا يزيد بن هارون حدّثنا عبّاد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْحُلة يكتحل بها عند النوم ثلاثًا في كل عين».
الثالثة: قوله تعالى: {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} الطيبات اسم عامٌّ لما طاب كَسْبًا وطَعْمًا.
قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرّم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي.
وقيل: هي كل مستلَذّ من الطعام.
وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات؛ فقال قوم: ليس ذلك من القُربات، والفعل والترك يستوي في المباحات.
وقال آخرون: ليس قُرْبة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقِصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها؛ وذلك مندوب إليه، والمندوب قُربة.
وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صِلاءً وصَلائقَ وصِنَابًا، ولكني سمعت الله تعالى يذمّ أقوامًا فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} [الأحقاف: 20].
ويروى صَرائق بالراء، وهما جميعًا الجرادق.
والصَّلائق باللام: ما يلصق من اللحوم والبقول.
والصِّلاء بكسر الصاد والمد: الشّواء.
والصِّناب: الخردل بالزبيب.
وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكُلْفَة وبغير كلفة.
قال أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح إن شاء الله عز وجل؛ فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من طعام لأجل طِيبه قطُّ، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبِطِّيخ والرطّب، وإنما يكره التكلّف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة.
والله تعالى أعلم.
قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضَرَاوَة كضَرَاوَة الخمر.
والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عماله: إياكم والتنعمَ وزِيّ أهل العجم، واخشوشنوا.
ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيءٍ أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه.
وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق}.
وقال عليه السلام: «سيِّد إدامِ الدنيا والآخرة اللحم» وقد روى هِشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطِّبِّيخ بالرطب ويقول: «يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا» والطِّبِّيخ لغة في البِطِّيخ، وهو من المقلوب.
وقد مضى في المائدة الردُّ على من آثر أكل الخشن من الطعام.
وهذه الآية تردّ عليه وغيرها: والحمد لله.
الرابعة: قوله تعالى: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا} يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له؛ فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحّده المنعَمُ عليه وصدّقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه.
وفي صحيح الحديث: «لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد».
وتَمَّ الكلام على {الحياة الدنيا}.
ثم قال: {خَالِصَةٌ} بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع.
{خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} أي يُخلِص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها.
ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصةٌ يوم القيامة.
فخالصةٌ مستأنف على خبر مبتدأ مضمر.
وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدّي وابن جريج وابن زيد.
وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصةٌ يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق {بِآمِنُوا}.
وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير.
وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع؛ لأن الكلام قد تمّ دونه.
ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على {الدُّنْيَا}؛ لأن ما بعده متعلق بقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} حالًا منه؛ بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة؛ قاله أبو عليّ.
وخبر الابتداء {لِلَّذِينَ آمَنُوا}.
والعامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله: {لِلَّذِينَ} واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات} أي كالذي فصّلت لكم الحلال والحرام أفصِّل لكم ما تحتاجون إليه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} يعني قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها وتلبسوها في الطواف وغيره ثم في تفسير الزينة قولان:
أحدهما: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد من الزينة هنا اللباس الذي يستر العورة.
والقول الثاني: ذكر الإمام فخر الدين الرازي أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلي، ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم ولكن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال دون النساء {والطيبات من الرزق} يعني ومن حرم الطيبات من الرزق التي أخرجها الله لعباده وخلقها لهم ثم ذكروا في معنى الطيبات في هذه الآية أقوالًا: أحدها أن المراد بالطيبات اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم فرد الله تعالى بقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}.
القول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة: أن المراد بذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله تعالى من الرزق وغيرها وهو قول الله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا} وهو هذا وأنزل الله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}.
والقول الثالث: إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد نص بتحريمه {قل هي للذين آمنوا} يعني قل يا محمد إن الطيبات التي أخرج من رزقه للذين آمنوا {في الحياة الدنيا} غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون {خالصة} لهم {يوم القيامة} يعني لا يشركهم فيها أحد لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق، وقيل: خالصة لهم يوم القيامة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر وتنغيص فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله {كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} يعني كذلك نبين الحلال مما أحللت والحرام مما حرمت لقوم علموا إني أنا الله وحدي لا شريك في فأحلّوا حلالي وحرّموا حرامي. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}
{زينة الله} ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به من الثياب وغيرها وأضيفت إلى الله لأنه هو الذي أباحها والطيّبات هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقة وهو الحل، وقيل: الطيبات المحلّلات ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطّيبات وألبانها والاستفهام إذا تضمّن الإنكار لا جواب له وتوهم مكي هنا أن له جوابًا هنا وهو قوله: {قل هي} توهم فاسد ومعنى {أخرج} أبرزها وأظهرها، وقيل فصل حلالها من حرامها.